الرئيسية » » الخريـــف.. تـــــــذوّقُ المــــــوتِ ببــــــــطءٍ ســــــــاحر | سوزان إبراهيم

الخريـــف.. تـــــــذوّقُ المــــــوتِ ببــــــــطءٍ ســــــــاحر | سوزان إبراهيم

Written By هشام الصباحي on الخميس، 25 سبتمبر 2014 | 5:22 ص

الخريـــف.. تـــــــذوّقُ المــــــوتِ ببــــــــطءٍ ســــــــاحر..

 
سوزان إبراهيم
لا تخطئهُ أنفاقُ الهواء الداخلِ إلى الجسد.. كما لا تخطئهُ أنفاق الهواء الداخل إلى عروق الأشجار.. الخريفُ فصل النهايات.. ربما البدايات.. من يدري هل نبدأ بالخريف أم ننتهي إليه!

مظلومٌ صاحب الألوان الساحرة هذا.. منبوذٌ كوجهٍ آخر للموت. وهو الهادئ الحكيم.. لكن.. في زمن الضجيج من يرغب بحكمة هادئة!

في عصر الموت الرشيق المتسلل إلينا من كل زاوية خطفاً على استعجال غير مبرر, من يقدّر قيمة التأني في الموت!

الخريف عاقل.. يسترسل في أداء مهمته.. يتقنها.. فيحنو على الأخضر ويسحب أوراق اعتماده بهدوء دون احتفالات صاخبة.. وهو بهذا- ومن حيث لا ندري- يفسح المجال لتدرجات الموت أن تبدو بجلاء وزهو.. هكذا يضطر الأخضر الطاغي المغرور للانسحاب قليلاً لتظهر من وراء ظهره ألوان ساحرة أخرى كان يختزنها ويمنع اعتلاءها منابر الجمال والصالات لعرض أزيائها الفريدة.

الخريف موسم هجرة.. موسم كتابة.. موسم انتهاء.. موسم ابتداء... ربما فرصةٌ لتذوق الموت ببطءٍ ساحرٍ!

الخريف طفلٌ يتهجى حروف الأخضر الأولى.. وبعد إتمام تعليمه ينسج من كل هذا الورق الأصفر اليابس رداء الخصب.

مازال الموت في بلدي رشيقاً.. مستعجلاً.. كموظف نشيط يستكمل إحصاء عدد محدد من الأرواح يومياً.. ولا تنفع دعواتنا في إبطاء خطاه ولو روحاً واحدةً.

يُحكى أن طفلاً فَقَدَ ذراعه عند سياج الخريف بشظية طائشة. يُحكى أن أمّاً زرعت اليد في أصيصٍ قرب مصاطب أنفاسها. يُحكى أن رساماً بارعاً نبت في ذلك الأصيص وكان أعسر.

يحكى أن الرسام كان مولعاً برسم الخريف وأطفالٍ بيد واحدة!

يُحكى أن امرأة سورية عاشقةً كانت تعدُّ أيام الغياب, وأن روزنامتها مصنوعةٌ من أوراق شجرة حور سحرية.. وقد تناقل الرواة حكاية تلك العاشقة.. قيل: كانت المرأة تعرف أنه كلما سقط إنسان في ساحة الحرب, الدائرة منذ ألف حزن ويُتمٍ, تسقط ورقة من شجرة الحور- الروزنامة.. وقد روى شهود قلبٍ أن المرأة تُمضي وقتها بخياطة الأوراق إلى أغمادها كي لا تسقط.. عسى تموتُ الحرب ويعود الرجال إلى الحياة!

يُروى أن المرأة كانت تعتقد- بل تؤمن- أن بإمكانها إنقاذ من اختارهم الموت على لائحته اليومية.. فحين تخيط الورقة إلى ساقها.. كأنها تثبّتُ زرَّ الروح في عروته كي لا يقع.. كأنّ إبرتها تخيط أقدام الموت إلى سياج البستان الشائك.

حَسِبَ الناسُ أن المرأة ساحرةٌ مشعوذة.. حَسِبوا أن فقدانها وحيدها قد أثّر على عقلها.. لكن المرأة العاشقة لم تسمع الأقاويل.. إذ كانت منهمكةً.. تخيط أوراق الشجرة رغم أصفرها.. رغم هبوب ريح الخريف.. وتنتظر أن تموت الحرب.

في كتب الخريف قصص كثيرة.. منها أن عاشقاً سورياً راح يبني أكواخَ قصبٍ غريبةً في الدروب.. وكان يترك فيها ما يغري أي عابرٍ بالبقاء.. وحدها السنونو كانت تمر بتلك الأكواخ ترتاح قليلاً قبل أن تعيد النظر بتوقيت هجرتها.. فالخريف السوري الطويل مازال يؤلمها, لكن ثمة صغاراً طلبوا منها قبل رحيلها أن تبحث عن بيوت مفقودة.. عن أهل مفقودين.. عن رفاق تاهوا في درب النزوح. أما الرجال الذين بنيت الأكواخ لاستدراجهم إليها, وتأجيل التحاقهم بخدمة الموت.. لم تترك لهم الحرب وقتاً كافياً لينظروا حولهم.

الخريف لا يكره الحياة.. بل هو مولع بتأهيلها من جديد.. قد يكون قاسياً لكنه معلمٌ بارع يملك حكمة دهرية.. نحزن حين نسمعه يردد: «الوردة التي تبتسم اليوم ستموت غداً» لكن الوردة تحيا وتنشر العبير رغم سماعها خطوات الموت وهو يدنو!

الخريف يقول أيضاً: «كل واحد منا هنا سيتوقف يوماً ما عن التنفس ويصبح بارداً.. ويموت».. والموت يهمس: أنا لست هنا الآن.. لكن أصابعي تتحفز!

الخريف لا يقول ذلك ليخيفنا.. بل ليعلّمنا أهمية الوقت.. أهمية أن نملأ الوقت حياةً!

في الخريف يبرد وجه حياتنا قليلاً بفعل انخفاض حرارة أخضرنا.. نبحث عن غطاء يعيد للدم دفئاً صيفياً مفتقداً.. عن بطانية الوطن لندفع بها عراء.. أو موتاً..

السوريون يتخاطفون أطراف البطانية- الوطن.. يشدّونها.. يسحبونها.. يدفعونها... وقد يمزقونها.. ومازالت البطانية غير كافية لأي منهم حتى الآن بتوقيت الخريف السوري!


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.